أرض البيانات

من أرضنا تأسست مبادئ أمن المعلومات قبل أربعة عشر قرناً


حين تفخر الشعوب والدول بتطورها العلمي والتقني يحق لنا في هذه الأرض المباركة أن نفخر أن رسالة الإسلام قد سبقت وأسست لكثير من العلوم والمعارف المعاصرة، ومن أجلى ما يمكن تأمله في مجال المعلومات هو تأسيس أهم مبدأين في علم أمن المعلومات المعاصرة، وهما النسخ الاحتياطي المسمى حديثاً "Backup" وخطة التعافي من الكوارث المعروفة تقنياً بمصطلح "Disaster Recovery Plan" وتطبيقهما بكل احترافية على أرض الواقع وفق الإمكانات المتاحة بذلك الوقت الذي تجاوز 1400 سنة.

 

حين بدأ الرسول الكريم دعوة الرحمة ورسالة النور والسلام من ربه إلى البشر أحاطت به قوى الشر والمخاطر من كل جانب، فتكالب عليه القريب والبعيد، ورسمت ضده الخطط والمكائد، وعُقدت ضده الاجتماعات للخلاص منه والقضاء على دعوته السماوية في مهدها، ولأن الإسلام دين عمل بالأسباب مع التوكل على مسببها، فكر القائد الأعظم عليه السلام بحماية الدعوة وتبليغ الأمانة الإلهية لإيصال رسالته للناس كافة، فرسم استراتيجية الطوارئ طويلة الأمد لحفظ أهم بيانات ومعلومات ودعائم رسالته بمأمن عن أخطار محيطهِ المتوتر في مكة، حيث كان وأصحابه قلة مستضعفين تحت التهديد الصريح تارة وتحت التعذيب والقتل تارة أخرى، فكان القرار الحكيم بأمره لبعض أصحابه أن يهاجروا إلى أرض الحبشة حيث الأمن التام، وحفظ نسخة احتياطية من رسالة الدعوة والتوحيد ورجالاتها بعيداً عن المخاطر والتهديدات.

 

كانت هجرة الحبشة هي الخطة الاستراتيجية للنسخ الاحتياطي "Backup" لجوهر الرسالة الإسلامية، ونسخة احتياطية بشرية أيضاً لأنصار هذا الدين الجديد المهدد بالدمار والزوال، ففي حال وقوع كارثة جماعية للمسلمين المتواجدين في قلب المخاطر كالقتل أو الأسر، سيكون هناك نسخة احتياطية بكامل عافيتها بمأمن في أرض الحبشة الآمنة، وبالتالي تكون خطة التعافي من الكارثة "Disaster Recovery Plan" جاهزة للتطبيق واستمرار جوهر الرسالة واستعادة عافيتها من جديد بأسرع وقت ممكن.

 

ما يؤكد ذلك الهدف الاستراتيجي من هجرة الحبشة هو توقيتها وطول فترة مكوثها، حيث امتدت لقرابة خمسة عشر عاماً، تخللها أشد مراحل الدعوة خطورة وأشرسها تهديداً، منها المحاصرة التاريخية في شِعب أبي طالب لمدة ثلاثة أعوام، فرضت خلالها أعظم مقاطعة اقتصادية واجتماعية في التاريخ، حتى أكلوا جلود الميتة وأوشكوا على الهلاك، وقد بلغت مخاطر تلك الفترة وتهديداتها قائد الرسالة ورسولها الأعظم صل الله عليه وسلم، فقد تعرض لأكثر من خمس محاولات اغتيال شخصية أشهرها مؤامرة دار الندوة المعروفة.

 

أثناء تلك الاستراتيجية حدث احتياج حقيقي لعودة مهاجري الحبشة، واحتدمت المخاطر فوقعت أهم المعارك الإسلامية كبدر وأحد والأحزاب، ولكن حكمة القائد العظيم عليه السلام آثرت استمرار تلك الخطة العبقرية لحفظ بيانات الدعوة الإسلامية ورجالها في مأمن تام ورغد عيش رغم الحاجة لهم، حتى زوال جميع المخاطر والتهديدات المهددة للكيان برمته، وقد حدث ذلك بعد صلح الحديبية وفتح خيبر، حين استتب الأمن وقويت شوكة الدولة وعمّت رسالته وزالت المخاطر، فأعلن الرسول الكريم عليه السلام نجاح الخطة وإنهائها بعودة المهاجرين وتعزيز قوة دولته بهم في المدينة، ونجاح أول عملية نسخ احتياطي للبيانات وخطة تعافي من الكوارث دونها البشر بتفاصيلها ونتائجها التي اختصرتها في هذه المقالة.

 

بهذه السطور وهذا الاستنباط التاريخي يحق لكل سعودي الفخر بالريادة الأولى في مجال البيانات وأمن المعلومات، فنحن أمة حفظ البيانات وأمة الأسانيد ودقة المعلومات، وأمة القران الخالد، وأن يكون ذلك حافزا لنا للتفوق التقني الحديث ومسابقة العالم أجمع، في كل ما من شأنه رفعة الوطن وتقدمه وازدهاره، فإن كانت المملكة العربية السعودية نالت الريادة وسادت عصر النفط الذهبي، فإنها اليوم بقياداتها المُلهمة الداعمة ورؤيتها الطموحة وإمكانياتها اللا محدودة وكوادرها المقتدرة تسعى بثبات وثقة نحو المنافسة وريادة عصر النفط الرقمي.. عصر البيانات والذكاء الاصطناعي، ثروة الدول في العصر الحديث، وميدان السباق المحتدم بين دول العالم العظمى، فقد نجحت السعودية العظمى بتأسيس مركزها الرقمي بتسارع وجدارة على هذا الكوكب المُفعم بالعلم والتقنية.